فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَإذْ قَالَ موسى لقَوْمه‏}‏ جملة مستأنفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم؛ و‏{‏إذ‏}‏ نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام ‏(‏لقومه‏)‏ ناصحاً ومستميلاً لهم بإضافتهم إليه ‏{‏ياقوم اذكروا نَعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، و‏{‏عليكم‏}‏ متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدراً، وإما بمحذوف وقع حالاً منها إذا جعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا ‏{‏إذ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إذْ جَعَلَ فيكُمْ أنبيَاءَ‏}‏ متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقرابئكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل‏:‏ إنهم كانوا أنبياء‏.‏ وقال الماوردي وغيره‏:‏ المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل؛ والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل‏:‏ المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ عطف على ‏{‏جعل فيكم‏}‏ وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها، وقيل‏:‏ لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القول كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى، فسمى ذلك الإنقاذ ملكاً، وقيل‏:‏ لا مجاز أصلاً بل جعلوا كلهم ملوكاً على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعاً‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً» وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال‏:‏ ألسنا من فقراء المهاجرين‏؟‏ فقال عبد الله‏:‏ ألك زوجة تأوي إليها‏؟‏ قال؛ نعم، قال‏:‏ ألك مسكن تسكنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأنت من الأغنياء، قال‏:‏ فإن لي خادماً، قال‏:‏ فأنت من الملوك، وقيل‏:‏ الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل‏:‏ من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضاً‏.‏

‏{‏وءاتاكم مَّا لَمْ يُؤْت أَحَداً مِّنَ العالمين‏}‏ من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر، وأل في ‏{‏العالمين‏}‏ للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جداً ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ياقوم ادخلوا الأَرْضَ المقدسة‏}‏ كرر النداء مع الإضافة التشريفية اهتماماً بشأن الأمر، ومبالغة في حثهم على الامتثال به، والأرض المقدسة هي ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي‏.‏ وابن زيد بيت المقدس، وقال الزجاج‏:‏ دمشق وفلسطين والأردن، وقال مجاهد هي أرض الطور وما حوله، وعن معاذ بن جبل هي ما بين الفرات وعريش مصر، والتقديس‏:‏ التطهير، ووصفت تلك الأرض بذلك إما لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو لأنها مطهرة من الآفات، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة، أو لأنها طهرت من القحط والجوع، وقيل‏:‏ سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب‏.‏

‏{‏التي كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ أي قدرها وقسمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكناً لكم‏.‏ روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتب عليكم الصيام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 183‏]‏ وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين، والكتب على أولهما مجاز، وعلى ثانيهما حقيقة، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعدما عصوا‏:‏ ‏{‏فإنها محرمة عليهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَاركُمْ فَتَنْقَلبُواْ خاسرين‏}‏ فإن ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعاً، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها، والجار والمجرور حال من فاعل ‏{‏ترتدوا‏}‏ أي لا ترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفاً من الجبابرة، وجوز أن يتعلق بنفس الفعل، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفاً غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتنقلبوا‏}‏ إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر، وإما منصوب في جواب النهي، قال الشهاب‏:‏ على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار وهو ممتنع خلافاً للكسائي، وفيه نظر لا يخفى، والمراد بالخسران خسران الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ ياموسى إنَّ فيهَا قَوْماً جَبَّارينَ‏}‏ شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز لهم ناصية، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه كالحساس من الإحساس وهو الذي يقهر الناس ويكرههم كائناً من كان على ما يريده كائناً ما كان، ومعناه في البخل ما فات اليد طولاً، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم، أخرج ابن عبد الحكم في «فتوح مصر» عن ابن حجيرة قال‏:‏ استظل سبعون رجلاً من قوم موسى عليه السلام في قحف رجل من العمالقة، وأخرج البيهقي في «شعب الإيمان» عن زيد بن أسلم قال‏:‏ بلغني أنه رؤيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار، وهي عندي كأخبار عوج بن عنق وهي حديث خرافة‏.‏

‏{‏وَإنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ منْهَا‏}‏ بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه ‏{‏فَإن يَخْرُجُواْ منْهَا‏}‏ بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها ‏{‏فَإنَّا دَاخلُونَ‏}‏ فيها حينئذ، وأتوا بهذه الشرطية مع كون مضمونها مفهوماً مما تقدم تصريحاً بالمقصود وتنصيصاً على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتوا في الجزاء بالجملة الإسمية المصدرة بإن دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهاراً لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ رَجُلاَن منَ الذين يَخَافُونَ‏}‏ أي يخافون الله تعالى وبه قرىء، والمراد رجلان من المتقين وهما كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو، وقيل‏:‏ المراد بالرجلين ما ذكر، و‏{‏من الذين يخافون‏}‏ بنو إسرائيل؛ والمراد يخافون العدو، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف، وقيل‏:‏ في الخوف أيضاً، والمراد‏:‏ أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام، فعلى هذا يكون ‏{‏الذين‏}‏ عبارة عن الجبابرة، والواو ضمير بني إسرائيل، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير ‏{‏يخافون‏}‏ بضم الياء، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل‏:‏ من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل، وفيها احتمالان آخران‏:‏ الأول‏:‏ أن يكون من الإخافة، ومعناه من الذين يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة؛ أو يخوّفهم وعيد الله تعالى بالعقاب، والثاني‏:‏ أن معنى ‏{‏يخافون‏}‏ يهابون ويوقرون، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم؛ ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين، وترجيح ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنْعَمَ الله عَلَيْهمَا‏}‏ أي بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضاً لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع، والجملة صفة ثانية لرجلين أو اعتراض، وقيل‏:‏ حال بتقدير قد من ضمير ‏{‏يخافون‏}‏ أو من ‏{‏رجلان‏}‏ لتخصيصه بالصفة، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين‏.‏

‏{‏ادخلوا عَلَيْهمُ الباب‏}‏ أي باب مدينتهم وتقديم ‏{‏عليها‏}‏ عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليصحروا ويجدوا للحرب مجالاً ‏{‏فَإذَا دَخَلْتُمُوهُ‏}‏ عليهم الباب ‏{‏فَإنَّكُمْ غالبون‏}‏ من غير حاجة ‏(‏إلى‏)‏ القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضايق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر، وقيل‏:‏ إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام، و‏(‏ من‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏التي كتب الله لكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏، وقيل‏:‏ من جهة غلبة الظن، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه، قيل‏:‏ والأول‏:‏ أنسب بتعليق الغلبة بالدخول‏.‏

‏{‏وَعَلَى الله‏}‏ تعالى خاصة ‏{‏فَتَوَكَّلُواْ‏}‏ بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه إن ‏{‏كُنْتُمْ مُّؤْمنينَ‏}‏ بالله تعالى، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي‏:‏ إن كنتم مؤمنين به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتماً‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام إظهاراً لإصرارهم على القول الأول وتصريحاً بمخالفتهم له عليه السلام ‏{‏ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا‏}‏ أي أرض الجبابرة فضلاً عن الدخول عليهم وهم في بلدهم ‏{‏أَبَدًا‏}‏ أي دهراً طويلاً، أو فيما يستقبل من الزمان كله ‏{‏مَّا دَامُواْ فِيهَا‏}‏ أي في تلك الأرض، وهو بدل من ‏{‏أَبَدًا‏}‏ بدل البعض؛ وقيل‏:‏ بدل الكل من الكل، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين؛ ومثله في الابدال قوله‏:‏

وأكرم أخاك الدهر ‏(‏ما دمتما‏)‏ معا *** كفى بالممات فرقة وتنائيا

فإن قوله‏:‏ «ما دمتما» بدل من الدهر‏.‏

‏{‏فاذهب‏}‏ أي إذا كان الأمر كذلك فاذهب ‏{‏أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ أي فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض؛ وقالوا ذلك استهانة واستهزاءاً به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة، وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبىء عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم، والمقابلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏، وقيل‏:‏ أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول‏:‏ كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا‏:‏ فأريدا قتالهم واقصداهم، وقال البلخي‏:‏ المراد‏:‏ فاذهب أنت وربك يعينك، فالواو للحال، و‏{‏أَنتَ‏}‏ مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر، ولا يساعده ‏{‏فَقَاتِلا‏}‏ ولم يذكروا أخاه هارون عليهما السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أو لم يعبأوا بقتالهم، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة‏.‏ فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله رداً لما أمر الله تعالى به ولا اعتذاراً عن عدم الدخول ‏{‏رَبّ إِنّى لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى‏}‏ هارون عليه السلام وهو عطف على ‏{‏نَفْسِى‏}‏ أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نفسي وأخي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما‏.‏ وقيل‏:‏ ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيهاً لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد بأخي من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في ‏{‏أَخِى‏}‏ وجوهاً أخر من الإعراب‏:‏ الأول‏:‏ أنه منصوب بالعطف على اسم إن، الثاني‏:‏ أنه مرفوع بالعطف على فاعل ‏{‏أَمْلِكُ‏}‏ للفصل، الثالث‏:‏ أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع‏:‏ أنه معطوف على محل اسم إن البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس‏:‏ أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل‏:‏ إنه يلزم من عطفه على اسم إن أو فاعل ‏{‏أَمْلِكُ‏}‏ أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك‏.‏ ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن‏.‏

‏{‏فافرق بَيْنَنَا‏}‏ يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرىء ‏{‏فافرق‏}‏ بكسر الراء ‏{‏وَبَيْنَ القوم الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي‏:‏ سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فَإِنَّهَا‏}‏ فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال‏:‏ إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه ‏{‏فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين‏}‏ والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك ‏{‏مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرىء القيس يصف فرسه‏:‏

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري *** إني امرؤ صرعي عليك ‏(‏حرام‏)‏

يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي وإليه يشير كلام البلخي أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر ‏{‏أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ متعلق بمحرمة فيكون التحريم مؤقتاً لا مؤبداً فلا يكون مخالفاً لظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن لا بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروى ذلك عن الحسن ومجاهد، وقيل‏:‏ لم يدخلها أحد ممن قال‏:‏ ‏{‏لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشي من ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريمها عليهم لما بينهما من العلاقة التامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتِيهُونَ فِى الارض‏}‏ استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل‏:‏ حال من ضمير ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏، والتيه‏:‏ الحيرة، ويقال‏:‏ تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق‏.‏ وقيل‏:‏ الظرف متعلق ‏{‏يَتِيهُونَ‏}‏، وروى ذلك عن قتادة فكيون التيه مؤقتاً والتحريم مطلقاً يحتمل التأبيد وعدمه، وكان مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخاً في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل‏:‏ اثني عشر فرسخاً في عرض ستة فراسخ، وقيل‏:‏ ستة في عرض تسعة، وقيل‏:‏ كان طولها ثلاثين ميلاً في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون كما قاله الحسن‏.‏ ومجاهد قيل‏:‏ وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل‏.‏

وقيل‏:‏ لأنهم عبدوا العجل أربعين يوماً فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض‏.‏ وقال أبو علي الجبائي‏:‏ إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله‏.‏ وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعاً لعطشهم، قيل‏:‏ ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روى عن طاوس‏.‏

وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه‏.‏

والعادة تبعد كثيراً منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه فقال‏:‏ إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له‏:‏ هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك‏؟‏ فقال‏:‏ لا أرضى بالكذب ثوباً، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهرون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحاً وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضاً كانا كذلك‏.‏

وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا‏:‏ قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة، وقيل‏:‏ بستة أشهر ونصف، وقيل‏:‏ بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحاء بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة‏:‏ بشهرين، وكان قد نبىء قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل ولا يساعده النظم الكريم فإنه بعدما قبل دعوته عليه السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهراً، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه السلام، ولا أرى للاستبعاد محلاً، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل‏.‏

وقيل‏:‏ إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء وقد أجيب كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيراً من الآيات كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَلاَ تَأْسَ‏}‏ أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى وهو الحزن ‏{‏عَلَى القوم الفاسقين‏}‏ الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم؛ فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ إنه للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بالقوم الفاسقين معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل‏:‏ هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏واتل عَلَيْهِمْ‏}‏ عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ الخ، وتعلقه به قيل‏:‏ من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعدما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به من البينات‏.‏ وقيل‏:‏ من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية، وضمير ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولاً، وأمر صلى الله عليه وسلم بتلاوة ذلك عليهم إعلاماً لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، وقيل‏:‏ الضمير عائد على هذه الأمة أي‏:‏ أتل يا محمد على قومك ‏{‏نَبَأَ ابنى ءادَمَ‏}‏ هابيل عليه الرحمة وقابيل عليه ما يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانا رجلين من بني إسرائيل ويد الله تعالى مع الجماعة وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال‏:‏ هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما‏:‏ قربا قرباناً فمن أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء‏:‏ احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض‏:‏ فأبت، وقال للجبال‏:‏ فأبت، فقال لقابيل‏:‏ فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قرباناً؛ فقرب هابيل جذعة، وقيل‏:‏ كبشاً، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال‏:‏ لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى ‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر ‏{‏اتل‏}‏ أي أتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل ‏{‏اتل‏}‏ أو من مفعوله أي متلبساً أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقاً لما في زبر الأولين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَرَّبَا قربانا‏}‏ ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيداً في عامله وهو ‏{‏اتل‏}‏ المستقبل، و‏{‏إِذْ‏}‏ لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل‏.‏ وقيل‏:‏ إنه بدل من ‏{‏نَبَأَ‏}‏ على حذف المضاف ليصح كونه متلواً أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في «البحر» بأن ‏{‏إِذْ‏}‏ لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ و‏{‏نَبَأَ‏}‏ ليس بزمان، وأجيب بالمنع، ولا فرق بين ‏{‏نَبَأَ‏}‏ ذلك الوقت ونبأ ‏{‏إِذْ‏}‏ وكل منهما صحيح معنى وإعراباً، ودعوى جواز الأول سماعاً دون الثاني دون إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرهما كالحلوان اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر، وقيل‏:‏ تقديره إذ قرب كل منهما قرباناً ‏{‏فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا‏}‏ وهو هابيل ‏{‏وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر‏}‏ لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح التوأمة ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ فماذا قال من لم يتقبل قربانه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل‏:‏ على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء ‏{‏لاَقْتُلَنَّكَ‏}‏ أي والله تعالى لأقتلنك بالنون المشدة، وقرىء بالمخففة‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى حسد أخيه ‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله‏}‏ أي القربان والطاعة ‏{‏مِنَ المتقين‏}‏ في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب إنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول‏؟‏ا وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان‏.‏

وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظاً لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل‏:‏ مراده الكناية عن أن لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعاً لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده؛ وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له‏:‏ ما يبكيك، فقد كنت وكنت‏؟‏ قال‏:‏ إني أسمع الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ‏}‏ قيل‏:‏ كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفاً من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة كما روي عن مجاهد وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال‏:‏ كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحرياً لما هو الأفضل الأكثر ثواباً وهو كونه مقتولاً لا قاتلاً بالدفع عن نفسه بناءاً على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين‏:‏ واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره‏:‏ إن المعنى في الآية لئن بسطت إليّ يدك على سبيل الظلم والابتداء لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم والإبتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج‏:‏ منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا‏؟‏ فيه كلام، والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل‏:‏ إنه لا يلزم ذلك بل يجوز، واستدل بما أخرجه ابن سعد في «الطبقات» عن خباب بن الأرت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ‏"‏ فتنة القاعدة فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ‏"‏ وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه، وأما من منع ذلك الآن مستدلاً بحديث ‏"‏ إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ‏"‏ فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة‏.‏

وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض، ولا شبهة في قبح ذلك أولاً وآخراً لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلباً للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال له‏:‏ لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ‏}‏ في جواب ‏{‏لَئِن بَسَطتَ‏}‏ للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال‏:‏ ‏{‏بِبَاسِطٍ‏}‏ للتبري عن مقدمات القتل فضلاً عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق ببسطت إيذاناً على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏ تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏إِنّى أُرِيدُ أَنْ تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ‏}‏ تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعاً لتوهم أن يكون جزء علة لاعلة تامة، ‏{‏وأصل البوء اللزوم، وفي «النهاية»‏:‏ أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع وأقر‏}‏، والمعنى إني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت إلي يدك، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً ‏{‏تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السماوات وَمَا فِى الارض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير وَمَن يُسْلِمْ‏}‏ كذا في «الكشاف»، قيل‏:‏ وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادىء إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادىء، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطاً عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما يشعر بها، ورده في «الكشف» بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «فعلى البادىء» مخصص ظاهر، وقول «الكشاف»‏:‏ «إلا أن الإثم محطوط» نفسير لقوله‏:‏ «فعلى البادىء» وقوله‏:‏ فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله‏:‏ ما قالا، فكما يدل على أن عليه إثماً مضاعفاً يدل على أن إثم صاحبه ساقط‏.‏ هذا ثم قال‏:‏ ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى إثم سبابهما على البادىء، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والقول‏:‏ بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادىء إثم، فيكف يقال‏:‏ إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام‏؟‏ وتحقيقه أن لما قاله غير البادىء إثماً وليس على البادىء، وليس بمناف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ لأنه بحمله عليه عدّ جانياً، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل، والحاصل أن سب غير البادىء يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني‏:‏ بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداءاً لا أنه لا يعفى، وأورد في «التحقيق» أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم، والجواب أن صريح الحديث يدل على ما ذكر في «الكشاف»، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعاً فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم كنحو الرمي بالكفر والفسق فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة‏:‏ «دونك فانتصري» أو يتضمن شتماً فذلك أيضاً يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما لم يعتد المظلوم» يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعدياً انتهى، وهو تفصيل حسن‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏بِإِثْمِى‏}‏ بإثم قتلي، ومعنى ‏{‏بإثمك‏}‏ إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر، وقيل‏:‏ معناه بإثم قتلي وإثمك الذي هو قتل الناس جميعاً حيث سننت القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قلبه، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولاً إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل ‏{‏أَن تَبُوء‏}‏ أي ترجع متلبساً بالإثمين حاملاً لهما، ولعل مراده بالذات‏:‏ إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل‏:‏ المراد بالإثم‏:‏ ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار‏}‏ على تلك الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده كما قال شيخ الإسلام قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ مِنَ الظالمين‏}‏ فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل‏:‏ بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ‏}‏ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله‏:‏ ‏{‏لاَقْتُلَنَّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏ لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله وإن كان استمراراً عليه بحسب الظاهر لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناءاً على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن فطاوعت وفيها وجهان‏:‏ الأول‏:‏ أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني‏:‏ أن المفاعلة مجازية يجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، و‏{‏لَهُ‏}‏ للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏‏.‏ والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء‏.‏

‏{‏فَقَتَلَهُ‏}‏ أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيراً فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم، وأخرج عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوماً من الأيام وهو يرعى غنماً له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمرو الشعباني عن كعب الأخبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل‏:‏ عند عقبة حراء، وقيل‏:‏ بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائهاً حتى مات، وروي أنه لما قتله أسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال‏:‏ ما كنت عليه وكيلا، قال‏:‏ بل قتلته ولذلك اسود جسدك‏.‏

وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال‏:‏ إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزناً عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له‏:‏ حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام، وتفسيره هبة الله يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها وأنزل عليه خمسين صحيفة وصار وصي آدم وولي عهده، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور‏.‏

وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ من قال‏:‏ إن آدم عليه السلام قال شعراً فقد كذب إن محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعراً عربياً، وذكر بعض علماء العربية أن في ذلك الشعر لحناً أو إقواءاً أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم نسبته إلى يعرب أيضاً لما فيه من الركاكة الظاهرة‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين‏}‏ دنيا وآخرة، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل ‏"‏، وأخرج ابن جرير والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم» وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافراً‏.‏ وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة فقال‏:‏ إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضاً حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار، والظاهر أن عليه أيضاً وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل بعضهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحَ‏}‏ على أن القتل وقع ليلاً وليس بشيء فإن من عادة العرب أن يقولوا‏:‏ أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمراً ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه فأصبح خاسراً للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الارض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءةَ أَخِيهِ‏}‏ أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال‏:‏ لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه؛ وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل‏:‏ إن أحد الغرابين كان ميتاً‏.‏ والغراب‏:‏ طائر معروف، قيل‏:‏ والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم‏:‏ إنه كان ملكاً ظهر في صورة الغراب والمستكن في يريه لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة ببعث حتماً، وعلى الثاني بيبحث ويجوز تعلقها ببعث أيضاً، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏يوارى‏}‏ قدم عليه لأن له الصدر، وجملة ‏{‏كَيْفَ يُوَارِى‏}‏ في محل نصب مفعول ثان ليرى البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل‏:‏ إن يريه بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة ‏{‏كَيْفَ يُوَارِى‏}‏ موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له وفيه نظر، والبحث في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقاً أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد بالسوأة جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل‏:‏ العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير ‏{‏أَخِيهِ‏}‏ عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكاً ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه‏:‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ‏}‏ كلمة جزع وتحسر، والويلة كالويل الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي يا ويلتى، وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك ‏{‏ياويلتا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب‏}‏ تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع كونه أشرف منه ‏{‏فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِى‏}‏ عطف على ‏{‏أَكُونَ‏}‏ وجعله في «الكشاف» منصوباً في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان‏:‏ ‏{‏أَنَّهُ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّقْتَدُونَ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ‏}‏، وأجاب في «الكشف» بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاماً ظاهرياً في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال‏:‏ فإن قلت‏:‏ الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت‏:‏ التوبيخ على جعل كل واحد سبباً، أو تنزيله منزلة من جعله سبباً لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل‏:‏ في توجيه ذلك أن الاستفهام للإنكار وهو بمعنى النفي وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب‏:‏ والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضاً، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضاً لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل عجزت بلم اهتد، وقد قال في التسهيل‏:‏ إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى‏.‏

ولعل الأمر بالتأمل الإشارة إن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل عجزت بلم أهتد هنا فليفهم، وقرىء ‏{‏أَعَجَزْتُ‏}‏ بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز، وقرىء فأواري بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في «البحر» ‏{‏بِأَنَّ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَداً رّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ إِذَا زُلْزِلَتِ الارض زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الارض أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا‏}‏ انتهى، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين‏}‏ أي صار معدوداً من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره‏.‏ وحمله على رقبته أربعين يوماً أو سنة أو أكثر على ما قيل وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبرىء أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك‏}‏ أي ما ذكر في تضاعيف القصة، و‏{‏مِنْ‏}‏ ابتدائية متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَتَبْنَا‏}‏ أي قضينا، وقيل‏:‏ بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، و‏{‏كَتَبْنَا‏}‏ استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره‏.‏ والأجل بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرىء به لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرىء بنقل الفتحة إليها في الأصل الجناية يقال‏:‏ أجل عليهم شراً إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جرّ عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره‏.‏ ‏{‏على بَنِى إسراءيل‏}‏ وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغياناً فيه وتمادياً حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل‏:‏ بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون‏.‏ ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغني عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن تأبى ذلك ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏مَن قَتَلَ نَفْساً‏}‏ واحدة من النفوس الإنسانية ‏{‏بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالاً أي متعدياً ظالماً ‏{‏أَوْ فَسَادٍ فِى الارض‏}‏ أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلاً، وهو عطف على ما أضيف إليه غير والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل‏:‏ من قتل بغير أحدهما‏:‏

‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً‏}‏ لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه، وقرىء أو فساداً بالنصب بتقدير أو عمل فساداً أو فسد فساداً ‏{‏وَمَنْ أحياها‏}‏ أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها‏.‏ أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه ‏{‏فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏، وقيل‏:‏ المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما الخ، و‏{‏مَا‏}‏ في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها، و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من ‏{‏الناس‏}‏ أو تأكيد، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات‏}‏ أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيداً لوجوب مراعاته وتأييداً لتحتم المحافظة عليه‏.‏ والجملة مستقلة غير معطوفة على ‏{‏كَتَبْنَا‏}‏ وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم الخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مّنْهُمْ بَعْدَ ذلك‏}‏ المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي في الرتبة والاستبعاد ‏{‏فِى الارض‏}‏ متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمُسْرِفُونَ‏}‏ وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزماً لتفريطهم في شأن الإحياء وجوداً وعدماً وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك، وقيل‏:‏ إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ‏}‏ لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وهم قليل من كثير، وذكر الأرض مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمراً مخصوصاً بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه إجمالاً من الفساد المبيح للقتل، فقال جل شأنه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ذهب أكثر المفسرين كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام كما قال الجصاص على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 57‏]‏ ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ المراد يحاربون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلى الله عليه وسلم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل‏:‏ ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم تعظيماً له وترفيعاً لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيداً على تمهيد، وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال‏:‏ حربه إذا سلبه، والمراد به ههنا قطع الطريق؛ وقيل‏:‏ الهجوم جهرة بالصوصية وإن كان في مصر ‏{‏وَيَسْعَوْنَ‏}‏ عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الارض‏}‏، وقيل‏:‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَسَاداً‏}‏ وهو إما حال من فاعل ‏{‏يَسْعَوْنَ‏}‏ بتأويله بمفسدين‏.‏ أو ذوي فساد‏.‏ أو لا تأويل قصداً للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل الفساد، وإما مصدر مؤكد ليسعون لأنه في معنى يفسدون، و‏{‏فَسَاداً‏}‏ إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء‏}‏ مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن يُقَتَّلُواْ‏}‏ أي حداً من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أولاً، والاتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ يُصَلَّبُواْ‏}‏ لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ وقيل‏:‏ صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياءاً وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثاً بعد القتل، قيل‏:‏ إنه يوم واحد‏.‏

وقيل‏:‏ حتى يسييل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجراً للغير عن الاقدام على مثل هذه المعصية‏.‏

وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم ‏{‏أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف‏}‏ أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه ‏{‏أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض‏}‏ إن لم يفعلوا غير الاخافة والسعي للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والجسن؛ والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين‏:‏

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها *** فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة *** عجبنا، وقلنا‏:‏ جاء هذا من الدنيا

ويعزرون أيضاً لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقاً إلى أن يتوب ويرجع‏.‏ وبه قال ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ والسدى رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وابن جبير، وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز‏.‏ وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفي عن بلده فقط، وقيل‏:‏ إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى دهلك وهو بلد في أقصى تهامة وناصع وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفن شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو ؤشد عليه‏.‏

هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه فأو للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل‏:‏ إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظاً وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحى إليه صلى الله عليه وسلم هذا التنويع والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام، وفيه تأمل فتأمل ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما فصل من الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ خِزْىٌ‏}‏ جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لخزي، أو متعلق به على الظرفية، وقيل‏:‏ ‏{‏خِزْىٌ‏}‏ خبر لذلك و‏{‏لَهُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالا من ‏{‏خِزْىٌ‏}‏ خبر لذلك و‏{‏لَهُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالا من ‏{‏خِزْىٌ‏}‏ لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا، و‏{‏فِى الدنيا‏}‏ إما صفة لخزي أو متعلق به كما مر آنفاً، والخزي الذل والفضيحة ‏{‏وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم، واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذاباً أيضاً، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزياً أيضاً لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشدّ من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏

«من ارتكب شيئاً فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وههنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وأما ما هو من حقوق العباد كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّاً، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصاً، فانهم إن شاءوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا‏.‏

وقال ناصر الدين البيضاوي‏:‏ إن القتل قصاصاً يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيهاً فقال بعد نقله وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلاً إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصاً حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له ولا واجب مطلقاف، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه قصاصاً، وإن جاز أو وجوب من حيث كونه حداً فتأمله انتهى‏.‏

وتعقبه ابن قاسم فقال‏:‏ ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلاً في صفة القتل قصاصاً وهي وجوبه، وقوله‏:‏ إذ لا يتصور الخ قلنا‏:‏ لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه وهو صحيح على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله‏:‏ لأنا إذا نظرنا الخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصاً، وقوله‏:‏ فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئاً من قلة التأمل انتهى‏.‏

وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بياناً لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بياناً لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصاً فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس «أن نفراً من عكل قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ الآية، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ الخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضاً إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه‏.‏

وأيضاً ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضاً، وسبب النزول لا يصلح مخصصاً فإن العبرة كما تقرر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال‏:‏ كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له علياً فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى علياً فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ويسعون في الأرض الفساد‏؟‏ قال‏:‏ أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ فقال سعيد‏:‏ وإن كان حارثة بن بدر‏؟‏ قال‏:‏ وإن كان حارثة بن بدر، فقال‏:‏ هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أماناً، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال‏:‏ إنما سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال‏:‏ ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال‏:‏ سمعت محمد بن عجلان يقول‏:‏ أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك وعلمه صلى الله عليه وسلم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال‏:‏ وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال‏:‏ بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضاء‏}‏ أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي ‏{‏إلى يَوْمِ القيامة‏}‏ أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد

‏{‏وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏ وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم ‏{‏يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الكتاب قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ‏}‏ بحسب الدواعي والمقتضيات ‏{‏كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ‏}‏ عن الناس في أنفسكم ‏{‏مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ إذا لم تدع إليه داعية ‏{‏قَدْ جَاءكُمْ مّنَ الله نُورٌ‏}‏ أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء ‏{‏وكتاب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 15‏]‏ خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعاً لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَهْدِى بِهِ الله‏}‏ أي بواسطته ‏{‏مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ‏}‏ أي من أراد ذلك ‏{‏سُبُلَ السلام‏}‏ وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل‏.‏ وقد قال بعض العارفين‏:‏ الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ الظلمات‏}‏ وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية ‏{‏إِلَى النور‏}‏ وهو نور الرضا والتسليم ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 16‏]‏ وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال‏:‏ الجملة الأولى‏:‏ إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية‏:‏ إلى توحيد الصفات، والثالثة‏:‏ إلى توحيد الذات ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ‏}‏ فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الارض جَمِيعاً‏}‏ فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ ويظهر ما أراد من الشؤون ‏{‏وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ فادّعوا بنوة الإسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي‏:‏ ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم‏}‏ والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح ‏{‏بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ‏}‏ كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء‏}‏ منهم فضلاً ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 18‏]‏ منهم عدلاً ‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم قَوْمٌ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً‏}‏ بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه

‏{‏وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ ياقوم اذكروا نِعْمَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 20‏]‏ أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام ‏{‏العالمين يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ‏}‏ وهي حضرة القلب ‏{‏الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ في القضاء السابق حسب الاستعداد ‏{‏وَلاَ تَرْتَدُّوا على أدباركم‏}‏ في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ خاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ لتفويتكم أنوار القلب وطيباته ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا موسى أَنِ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ‏}‏ وهي صفات النفس ‏{‏وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا‏}‏ بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع ‏{‏فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا داخلون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏ حينئذٍ ‏{‏قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ‏}‏ سوء عاقبة ملازمة الجسم ‏{‏أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا‏}‏ بالهداية إلى الصراط السوي وهما العقل النظري والعقل العملي ‏{‏ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب‏}‏ أي باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالبون‏}‏ بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏ بالحقيقة وهو الإيمان عن حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا موسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض ‏{‏إِنَّا هاهنا قاعدون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات ‏{‏قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الارض‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 26‏]‏ أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه ‏{‏واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنى ءادَمَ‏}‏ القلب اللذين هما هابيل العقل؛ وقابيل الوهم ‏{‏إِذْ قَرَّبَا قربانا‏}‏ وذلك كما قال بعض العارفين‏:‏ إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قرباناً ‏{‏فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا‏}‏ وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى ‏{‏وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاخر‏}‏ وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر ‏{‏قَالَ لاَقْتُلَنَّكَ‏}‏ لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية الذي به الحياة عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية

‏{‏قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 27‏]‏ الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة ‏{‏لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاِقْتُلَكَ‏}‏ أي إني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها ‏{‏إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 28‏]‏ أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل ‏{‏إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ‏}‏ أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة ‏{‏فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار‏}‏ وهي نار الحجاب والحرمان ‏{‏وَذَلِكَ جَزَاء الظالمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 29‏]‏ الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ‏}‏ بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية ‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 30‏]‏ لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضده العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها ‏{‏فَبَعَثَ الله غُرَاباً‏}‏ وهو غراب الحرص ‏{‏يَبْحَثُ فِى الارض‏}‏ أي أرض النفس ‏{‏لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى مِنْ أَخِيهِ‏}‏ وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ لّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي واجعل لّى وَزِيراً مّنْ أَهْلِى هارون أَخِى‏}‏ بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها ‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 31‏]‏ عند ظهور الخسران وحصول الحرمان ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بَنِى إسراءيل أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الارض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 32‏]‏ لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي أولياءهما ‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِى الارض فَسَاداً‏}‏ بتثبيط السالكين ‏{‏أَن يُقَتَّلُواْ‏}‏ بسيف الخذلان ‏{‏أَوْ يُصَلَّبُواْ‏}‏ بحبل الهجران على جذع الحرمان ‏{‏أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ عن أذيال الوصال ‏{‏وَأَرْجُلُهُم مّنْ خلاف‏}‏ عن الاختلاف والتردد إلى السالكين ‏{‏أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الارض‏}‏ أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم ‏{‏ذلك لَهُمْ خِزْىٌ‏}‏ وهوان ‏{‏فِى الدنيا وَلَهُمْ فِى الاخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏ لعظم جنايتهم، وقد جاء أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى ولياً فقد آذنته بالمحاربة نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب أمر المؤمنين بتقواه عز وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد ‏{‏وابتغوا إِلَيهِ‏}‏ أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه ‏{‏الوسيلة‏}‏ هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل‏:‏ متعلق بالفعل قبله، وقيل‏:‏ بمحذوف وقع حالاً منها أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة، فإنه ملاك الأمر كله‏.‏ والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، والجملة حينئذٍ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل‏:‏ الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة‏:‏

إن الرجال لهم إليك ‏(‏وسيلة‏)‏ *** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وكأن المعنى حينئذٍ اطلبوا متوجهين إليه حاجتكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السموات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم الوسيلة بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناءاً على ما رواه مسلم وغيره «إنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة» وكون الطلب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى‏.‏

واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال‏:‏ اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين‏:‏ يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل‏.‏

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حياً ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة‏:‏

‏"‏ لا تنسنا يا أخي من دعائك ‏"‏ وأمره أيضاً أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلى الله عليه وسلم بطلب الوسيلة له كما مر آنفاً وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتاً أو غائباً فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة؛ فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا‏:‏ ‏"‏ السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم ‏"‏ ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الخلق على كل خير أنه طلب من ميت شيئاً، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائراً‏:‏ السلام عليك يا رسول الله؛ السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلى الله عليه وسلم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئاً وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدراً من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعوا الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم‏:‏ يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلى الله عليه وسلم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد‏؟‏‏؟‏ا

وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال‏:‏ اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في «شرحه الكبير للجامع الصغير»، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ادع الله تعالى أن يعافيني فقال‏:‏ إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال‏:‏ فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء

‏"‏ اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في ‏"‏، ونقل عن أحمد مثل ذلك‏.‏ ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقاً وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية؛ ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلى الله عليه وسلم، ففيه جعل الدعاء وسيلة وهو جائز بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث‏:‏ «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضاً ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي كما هو عادته على المجد، فقال‏:‏ ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلى الله عليه وسلم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤل بتقدير مضاف كما سمعت؛ أو نحو ذلك كما تسمع إن شاء الله تعالى ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في «سننه» وغيره من ‏"‏ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي ذلك في وجوه أصحابه، فقال‏:‏ ويحك أتدري ما الله تعالى‏؟‏ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ‏"‏ لا يصلح دليلاً على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله‏:‏ «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله‏:‏ «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلى الله عليه وسلم مضمون الجملة الثانية دون الأولى‏؟‏ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلاً لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلى الله عليه وسلم حياً وميتاً، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقاً قياساً عليه عليه الصلاة والسلام بجامع الكرامة وإن تفاوت قوة وضعفاً، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصاً في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي «صحيح البخاري» عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال‏:‏ «اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون» فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون‏:‏ اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدني مساغ لذلك، فعدولهم هذا مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره‏.‏

وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلى الله عليه وسلم مع التفاوت في الكرامة الذي لا ينكره إلا منافق مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حياً وميتاً مما لم يقم النص عليه لا يقال‏:‏ إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلى الله عليه وسلم حياً وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه‏:‏ كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم، وأما الثاني فلقوله‏:‏ إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل‏:‏ إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمّنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه وهذا هو محل النزاع وقد علمت الكلام فيه‏.‏

وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل اللهم أسألك بجاه فلان فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال‏:‏ إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال‏:‏ أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما ذكره بعض العامة من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألو الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم ‏"‏ لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره أنه قال لتلامذته‏:‏ إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله الآن لو يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الخارج إلى الصلاة ‏"‏ اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياءاً ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة ‏"‏، ففي سنده العوفي وفيه ضعف وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقال فيه‏:‏ إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلاً لا وجوباً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏، وفي «الصحيح» من حديث معاذ ‏"‏ حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم ‏"‏ فالسؤال حينئذٍ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك ‏"‏ فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته‏.‏

وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر «إذا أعيتكم الأمور» الخ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عن اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها‏؟‏ا سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏